بوح القرى

بوح القرى
الذاكرة الأردنية توثيق للتراث المادي وغير المادي

بوح القرى

إنها مجرد نسيم من الزمن الجميل، يتنفسها القرويون بكل تفاصيلها الجميلة وذكرياتها العتيقة

من زمان وحديث القرايا شفوي، منسي، غير موثق، تذروه الرياح، في مقابل حديث السرايا الذي تُصَفُّ له الكتب والمراجع والمجلات، حتى دخل هذا العرف جزءا من بنية ذاكرة البشر هنا في التفريق بين حديث القرايا وحديث السرايا 

وهنا لا بد من الانتصار لتلك الأحاديث المنسية حتى لا تغيب عنا ذات يوم فلا نستطيع التقاطا لها، ولا تدوينا لمنمنمات القصص والحكايا التي تفصلها، وتدخل في تشعبات الذاكرة الشعبية التي تتجه كل الأمم لتدوينها ولو بعد طول غياب 

وقرانا لها ذاكرة أيضا، ولها طقوسها ومعارفها، ولها تفاصيلها التي بدأ يغلفها النسيان حينا، والتبرؤ منها في أحيان أخرى، وهذه الكتابة هي بداية معمار توثيق ذاكرة القرى، وهي ليست الأولى، لكن كان قبلها جهود بدأت متناثرة هنا وهناك، وصار لا بد من جمع شتاتها، وتدوينها، حينا من أفواه الكهول، وحينا من سواليف العجائز، وأحيانا أخرى من بطون الكتب، ومن نتف المدونات التي تناثرت فيها على خجل في مرات عديدة. 

إذن.. من أين يكون البدء والقرى على مدّ البصر حولنا؟  

وما بعض تلك القرى في الأردن، إلا بداية هذه المدن التي صارت عجلة الحركة فيها تجعلها تتثاءب بين البداوة والريف حتى وإن غلفتها مظاهر المدينة، وتغيرت منها الأسماء أيضا، والقرى بدء الحضر، ونهاية البداوة، والقرى نكهة الحنطة، وكروم العنب والزيتون، وحين تكون القرية يكون منها مبتدأ مدينة مجاورة، أو غواية لريف تسرح فيه كل معاني الحياة وتفاصيل تطورها، وقد ذُكرت القرية في الوسيط على أنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا، وتقع على المدن. وقرية النمل مأواه، وجمعها قرى، والقريتان مكة والطائف، وفي التنزيل العزيز: “وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين“. 

والقرية هي الوحدة الاجتماعية لمجتمع ريف المدينة أية مدينة كانت، وتكون مع المزارع المحيطة بتلك المدينة ما يسمى بريف المدينة التي يحمل اسمها بغض النظر عن كون بعض تلك المدن واقعة في السهل أو الغور أو الجبل. 

 ونشوء القرية مصاحب للإنسان منذ استقر على سطح البسيطة، وانتقل من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار والعمل والإنتاج قبل آلاف السنين، وبذلك فإن سكان القرى يراد بهم الفلاحون أهل الزراعة والحرث وسكان القرى في الأرياف 

ولعل من المفيد إعطاء معنى الريف الذي يشكل الحاضن الأساس للقرى، والذي يعرف في لسان العرب بأنه موضع الزرع والشجر والخصب، والريف أيضا ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها، ويجمع على ريوف وأرياف، كما أنه يقترن بتعريف الريف تعبير آخر هو السواد ويراد به جماعة النخل والشجر وسمي بذلك لخضرته لأن الخضرة عند العرب تقارب السواد، وهي تقول لك أخضر، أسود، كما أن للسواد مدلول آخر يرتبط بالإنسان ونمط عمله ويحدد موقعه تحديدا دقيقا، ويعني القرى والأرضين الزراعية المحيطة بالمدن، فهو له صلة وثيقة بالإنسان، وهو أحد مكونات الريف التي تكون القرية الوحدة الاجتماعية له، وأهله وسكانه تختلف تسميتهم من إقليم إلى آخر، ففي العراق يسمون السواديه، أما القروي أو القرياتي فتلك لفظة مستعملة في الشام، بينما في بلاد فارس كانت تستعمل لفظة رستاقي. 

 وقد اعتمد لتحديد الريف، وتعريف القرية معايير عدة تتميز بها القرية عن المدينة، إذ اقترح البلدانيون معيار الحجم الذي يراد به حجم العمران من المنازل ونحوها في الرقعة التي تشغلها القرية اعتمادا على عددها، والمعيار الثاني هو الوظيفة المقصود بها الخدمات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والدينية في الريف لتلبية احتياجات السكان هناك، بينما المعيار الثالث هو معيار اجتماعي على مستوى المعيشة من حيث الملبس والمسكن والمأكل، إذ يتسم لباس الفلاحين بالبساطة فرجال القرى الأردنية يعتمرون الحطة، أو الشماغ، وفي بعض القرى يسمى السلك، ويستعملون الأثواب الطويلة (الكِبِر)، أما الفلاحات فيستعملن الملابس المطرزة، التي ترسم عليها التعريقات وبألوان مختلفة 

والمساكن في القرى أيضا بسيطة مصنوعة من الصلصال المجفف تحت الشمس أو الحجر أو الطين. وبالنسبة للغذاء فهو مغذ طبيعي بسيط من الأرض التي يفلحونها، حالهم في ذلك حال كل فلاحي الوطن العربي، ولعل القرية العربية تتشابه أحوالها في كل الدول العريبة، وظروفها الاجتماعية تمتاز بالبساطة والهدوء وتماسك الحياة الأسرية فيها، فالناس في الريف متمسكون بالدين والعادات والتقاليد تمسكا شديدا إضافة إلى إكرام الضيف، ومساعدة الضعيف كصفة حميدة أساسية لديهم، وهي جزء من قيمه القرية وتراثها. 

وإذا عدنا إلى ذاكرة شرق الأردن قبل التكوين السياسي الحديث، نجدها سلسلة من القرى التي كان العثمانيون ينظمونها بعد مرج دابق، وتراجع المماليك، ليحصروها ضمن تنظيماتهم الإدارية بدءا من تشكيل لواء عجلون العثماني، في العهد المبكر لتلك الدولة، مرورا بالإمارة الزيدانية في القرن الثامن عشر، والتي جعلت إربد وعجلون تابعة لسيطرة الإمارة المحلية، واختارت قرية تبنة عاصمة إقليمية للمنطقة، ثم عودتها بعد ذلك إلى العثمانيين، وبعد ذلك تأثرت القرى بالأحداث التي رافقت عهد أحمد باشا الجزار حين قام بغارات كثيرة على القرى في المنطقة، إضافة إلى كثرة الضرائب المفروضة والتي  أدت إلى المواجهة في وادي الغفر بينه وبين قوات ناحية الكورة والتي انهزم فيها الجزار، ولعل هناك وثائق ومعلومات أيضا عن المواجهة مع الحملة الفرنسية على بلاد الشام ومشاركة قوات من شرق الأردن ضمن القوات التي تصدت لقوات نابليون آنذاك في مرج بن عامر، إضافة إلى اكتساب تلك القرى في شرق الأردن قبل الحملة المصرية على بلاد الشام أهمية، لوقوعها على طريق الحج الشامي(المحمل الشامي)، وما رافقه من ترميم لكثير من قلاع القرى الأردنية آنذاك، كإجراء لحماية الحجيج مثل قلعة الزرقاء وقلعة القطرانه وقلعة معان وقلعة العقبة وقلعة عجلون وقلعة السلط وقلعة الكرك وقلعة الشوبك، مع استحداث محطات جديدة لهذا الغرض أيضا في الرمثا والمفرق وزيزيا والحسا وعنيزه والمدورة في الدور الأول من عهد الإدارة العثمانية قبل زحف القوات المصرية (ابراهيم باشا) على بلاد الشام عام 1831م ، والدور الثاني مع بداية انسحاب تلك القوات عام 1864م، جعل تلك القرى تتقلب على أشكال إدارية كثيرة، تتفاوت من فترة إلى أخرى وتثبتها السجلات العثمانية فيما يسمى بالسالنامه “الكتاب السنوي، الذي يعتبر التقويم الرسمي السنوي للولايات العثمانية، حيث تظهر القرى والألوية الأردنية، وتقسيماتها في ذاكرة سالنامة ولاية سوريه، وهي تتضمن بيانات وإحصاءات رسمية للولاية وأسماء السلاطين والولاة والمتصرفين والقائممقامين ومدراء النواحي والموظفين في المعارف والنافعة (الأشغال) والتجارة والزراعة والأملاك والأوقاف وإداريي مواكب الحج الشريف والبلدية والصحة والبريد والدواوين العمومية 

وربما تكون هذه السالنامة خير دليل على حال الشام في أواخر القرن التاسع عشر، وهي تذكر معلومات عن شرق الأردن (قضاء عجلون، قضاء السلط، لواء الكرك، قضاء معان، قضاء الطفيلة). 

ولكن هذا النبش في تلك الوثائق لا بد وأن يفرز مدونة لتلك القرى، وربما ينصف ذاكرتها، ولعل مساحة قليلة لا تكفي لبث كل هذا التاريخ المنسي. 

ولكن من أين يجب البدء؟  

هذا السؤال المتكرر، والذي يضع المهتم أمام مواجهة حقيقية حين يتجرأ على خوض مغامرة لملمة تلك الأشلاء في محاولة لرأب الصدع، وردم الهوّة، وإعادة البنيان في سبيل قراءة معمقة لتلك الأماكن/القرى، ولهذا لن نتوقف عند مرحلة بحد ذاتها، لأن لكل قرية خصوصيتها، وتاريخها الشعبي الذي يشكل هويتها، ويجعل لها بصمتها، وحكايتها التي لا تذكر تلك القرية أيا كانت اإا وتنسب إليها تلك القصة لأنها الصورة الحقيقية لها، ولعل التوطئة عند الدولة العثمانية كانت ضرورة لأنها فاتحة التشكيلات الحديثة للقرى، وآخر مرحلة كانت قبل المسح البريطاني لجغرافية الأردن(تسوية الأراضي)، وتثبيت حدودها بين بعضها البعض، رغم أن الحقيقة الأكثر قربا هي في أن للقرى ذاكرة مترفعة على تلك التقسيمات بحيث تتداخل مجموعة منها أو تتزاحم أكثر من تسمية على قرية واحدة، ولهذا فلا بديل عن الميدان لتلمس نبض كل قرية لوحدها، بوجوه أناسها، ورائحة أشجارها، ونقوش حجارتها، وتفاصيل حكاياتها، مستخلصين في النهاية قصة القرية في جزء من الكتابة، وفي قسم آخر نكتب السيرة الذاتية لها بتتبع الموقع والتعليم والخدمات المختلفة الموجودة فيها، هذا هو الطموح، وهذه محاولة للبدء في تدوين التراث المادي وغير المادي لتلك القرى، في بوح القرى !! 

 

الباقورة أرض الحشد الى حطين

“تذكر أنك في أرض معركة حطين”..  هذا أول الدهشة، وتلك بدايات المعرفة بما خفي من…

الرامة: ذاكرة “الشاغور” وأساطير التل و”المزار”

حينما في الأغوار، لم تكن الطريق مهيأة بين الشريعة وعمان.. وكانت على مشارف البحر الميت…

السماكية.. تراتيل الاستقرار

قرية "عن بكرة أبيها" تقف انتظارا للقادمين.. هناك، حول الدوار الساكن في منتصفها اجتمع أهلها…