Case Study Details

We always bring client satisfaction no matter what the case
السماكية.. تراتيل الاستقرار

السماكية.. تراتيل الاستقرار

السماكية.. تراتيل الاستقرار

قرية “عن بكرة أبيها” تقف انتظارا للقادمين..

هناك، حول الدوار الساكن في منتصفها اجتمع أهلها مترقبين مجيء حملة رسالة الرب.. وكانوا فرحين..

كان هذا قبل أكثر من خمسة عشر عاما.. كنت هناك في السماكية، وبهذه الهيئة والبهجة دخلت تلك القرية صباح جمعة مهيبة، وما كان مثل بقية الأيام، فالأعلام مرفوعة، والرجال والنساء ومعهم الأطفال متجمعين في نقطة واحدة من القرية، بينما فرقة الكشافة تعزف ألحان البهجة التي يتداخل فيها إيقاع الحماس الوطني، مع دفء الطقس الديني، في استقبال غير عادي لثلاثة كهان تجاوزوا قبل ليلة حفلة الرسامة الكهنوتية، وها هم يأتون الآن ليمارسوا أول طقس ديني لهم، هو القدّاس الأول الذي فيه يكون التتويج لكل تلك المسيرة الطويلة من التهيئة الروحية، لكي يكون التمازج الكلي للذات مع تجليات الكهنوت..

وكانوا كأنهم القادمون إلى يوم عرسهم، يرددون في سرهم المجد للرب في الأعالي، فيردد الكل معهم، “وعلى الأرض السلام”..

وكنت أرددها أيضا، وكان هذا أول الحضور إلى “السماكية”، القرية التي هي بقدر ما تشعر زائرها بالأمان، بقدر ما تضفي عليه غلالة القداسة من مهابة الطقس الذي يعيد كل مريد لها إلى الأيام الأولى للحظة التعارف مع الدين، ولحظة الدخول في المكان كمعبد، وكتطهير للروح، وكصرح للتأمل..

إنها العودة البكر إلى الترتيلة الفاتحة للقرية..

وفيها تذكار لأول صليب علّق فيها، أيام كانت مضاربا، وكانت الصلوات تؤدى في الخيام، وكان اسمها يدل على عمق عروبي، ووسمها يشير إلى تجلٍّ ديني!

عين المعرّجة

تقع السماكية شمال شرق مدينة الكرك على مسافة22كم من مركز المحافظة، وهي تتبع اداريا إلى بلدية شيحان، في لواء القصر من محافظة الكرك.

والسماكية.. من تتبع تداعيات الاسم هناك مؤشرات تدلل على أنه ورد لدى الجزيري، عندما مر في المنطقة مع قافلة الحج المصري متجها إلى الحجاز، وذكر بأن هذه الأطراف يسكنها نفر من بني سماك، وهم بطن من لخم القحطانية، وقد أخذت الاسم منهم، فهي بذلك تكون السماكية نسبة إلى بني سماك.

وهناك تفسيرات شعبية أخرى للاسم، اختلفت فيها الآراء، إذ أن البعض يحيل السبب إلى الطبيعة الجغرافية لموقع القرية، حيث أن طبوغرافيتها تشبه شكل السمكة بانحدار حيز منها. وهناك رأي ثان يقول بأنه كان هناك عين ماء قريبة منها هي “عين المعرّجه” وكانت هذه العين تعطي سمكا يصطاده المجاورون لها، فسمي الوادي باسمها، “وادي المعرجة”، ثم “وادي السمك”، وسميت القرية بعد فترة باسم “السماكية”.

الملك الصالح

عمقها يدل على تاريخ يعود آلاف السنوات في عمق الزمان.. 

تلك هي السماكية التي يقول عنها نايف النوايسه في كتابه”السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن/الكرك”، إنها”قرية حديثة فوق مواقع قديمة تعود لعهود الأنباط والرومان، ومن آثارها خربة مدينة عاليا، أو المعرجة، وتشرف على وادي المعرجة، وعثر فيها على قلعة مؤابية مستطيلة بأبعاد غير منتظمة ووجد فيها منزل من النمط الذي يشبه منازل منطقة مجدو.. وفي السماكية العديد من الكهوف القديمة، والمقابر النبطية، ومعصرة زيتون تعود للعصر البيزنطي، وعدد من النقود التي سُكّت زمن الملك الصالح أخ صلاح الدين.”.

حلف دفاعي

كما أنه تشير ذاكرة المنطقة التي تقع فيها القرية إلى أن العشيرتين التين قطنتا السماكية وهما الحجازين والعكشة اقامتا في القرية بعد الاتفاق مع بعض عشائر الكرك، ولا سيما المجالي وذلك عبر حلف دفاعي يساهم فيه كل من الحجازين والعكشة في حماية الحدود الشرقية لهضبة مؤاب من غزوات البدو الرحل. 

وعن هذه التفاصيل، وتداعيات أخرى حول بداية الاستقرار في السماكية، يذكر كتاب”الكهنة المؤسسون”، الذي يحمل رقم”37″ من منشورات “المعهد الإكليريكي” أنه (في سنة 1901، عندما كان الأب “أنطون عبد ربّه” نائب كاهن الرعية في الكرك، ومسؤولا بشكل خاص عن المؤمنين البدو في الرعية، قام بتقسيم أراضي خربة السماكية عليهم. أعطيت هذه الخربة البيزنطية، الواقعة في الشمال الشرقي من الكرك، للحجازين والعكشة بعد حرب الحمايل التي فيها أصبح المسيحيون حلفاء المجالي المنتصرين. كانوا يرعون قطعانهم في تلك المنطقة ويفلحون الأرض، كما كانت تلك الخربة ذات قيمة كبيرة بسبب الآبار العديدة، والمُغُر المتواجدة فيها).

سجلات المعمودية

إن الناس المقيمون على هذه الأرض ووالقائمون على فلاحة تلك المنطقة كانوا هنا في وقت أقدم من هذا التاريخ، ولعله من الأحرى بنا أن نعود عميقا نحو سنوات سابقة، ثم نبني عليها سيرة الانسان في السماكية إلى ان نصل هذه المرحلة وما بعدها، حيث يشير تاريخ المكان إلى أنه مع بداية التشكل والاستقرار الحديث في السماكية كان يوجد فيها طائفة مسيحية واحدة هي طائفة اللاتين، ويعود تاريخها إلى عام 1876، وهو تاريخ بداية الحديث مع البطريركية اللاتينية، حيث تم تأسيس رعية الكرك، وأولها السماكية وقد كانوا هناك في بيوت الشعر ويشير تاريخ تجمعهم التقريبي هناك إلى عام 1870 تقريبا، وهم من الحجازين والعكشة، ويعيدنا إلى التاريخ الأقدم من ذلك حديث كبار القرية بقوله أنهم “جاءوا من الحجاز من جهة وادي الريان، ثم سكنوا البتراء، ووادي موسى، وبعدها نزحوا إلى الكرك، وما زالت لهم مقاسمهم في مدينة الكرك، ثم انتقلوا عربانا في سفح شيحان، وبالأخص في منطقة السماكية، وخربتها هذه مبنية على آثار بيزنطية وهي ممكن تكون صارت لاحقا آثارا أموية تابعة لقصور بشير والعال”.

ويؤكد الأب رفعت بدر أن سجلات المعمودية أقدم من دير اللاتين الذي تأسس في السماكية عام 1876 حيث أنه يرد في تلك السجلات الرسمية الموجودة في كنيسة اللاتين /السماكية في الصفحة الثانية أنه “بتاريخ 7/9/1884 جرى تعميد جريس ابن عودة وصبحا الذي ولد قبل شهرين من العماد، وقد عمدهما الكاهن الإيطالي السكندر مكانيو، كاهن رعية الكرك، ومكان العماد هو السماكية في بيوت الشعر، والأشابين هما ناصر وكاترين من السلط”.

العمار

يتحدث أهل السماكية عن بداية استقرارهم فيها، بعد زراعتهم إياها بقولهم أنه”جاهم مطران القدس عام 1909، ورفض يشرب القهوة، وطلب منهم يتجمعوا في خربة السماكية اللي راح يشتريها من الشيخ قدر المجالي بـ”70 مجيدي” وتجمعوا في السماكية، الحجازين والعكشة، وبالفعل شرب هناك القهوة، واشتراها بعد بيوم من الشيخ قدر، وبعدين بدو أهل السماكية يبنوا هناك..”.

غير أن تفصيل تلك البداية يوردها كتاب “الكهنة المؤسسون” بأنه “كانت رغبة الأب أنطون عبد ربّه أن يرى مؤمنيه مستقرين فيها دون تأخير(ويقصد السماكية)، وكان المجالي يعارضون ذلك، إذ أنهم كانوا معتادين على نصب خيامهم في فصل الشتاء على منحدر السماكية، فخشوا إن بنيت القرية، أن يضايق ذلك نصب خيامهم. ولم يتم الاتفاق إلا سنة 1909، لدى زيارة “المنسينيور بيكاردو” الرعوية لشرق الأردن، وبخاصة لتلك الناحية. وبفضل تدخل بعض شخصيات الكرك، حصل على الترخيص المطلوب من قبل الشيخ قدر المجالي. وبتشجيع قوي من الأب منصور جلاد، وكان في تلك الفترة نائب كاهن رعية الكرك، دفع مسيحيي السماكية في الشروع في العمار حالا في تشرين الثاني سنة 1909، كانت بيوتا بسيطة، لكنها أبرزت نهضة السماكية”.

*** 

ترى ما هي مشاعر الذين بدأوا يحسون بالمكان سكنا وحجرا، بعد أن مضت عليهم سنوات سالفة وهم يزرعونه ولا يسكونونه إلا بخيام هي عرضة لأية هبة ريح؟

الذي يتتبع بقايا البيوت القديمة، وأحاديث أهل السماكية عما يذكرونه ممن سبقوهم، يعرف قيمة حضور المكان، وتجليات ثراءه عندما يقوم بإعماره أهله وناسه، ولعل أول بيت بني بعد تثبيت القرية للحجازين والعكشه يعرفه كل أهل القرية الآن، ان لم يكن بالموقع فباسم صاحبه”خليل الصلاحين الحجازين، وقد بني بداية عام 1910، ثم بدأت بعد ذلك بيوت القرية تتركب بعضها على بعض.

الأب منصور

تشير وثائق الكنيسة، وذاكرة أهل القرية أن أهل السماكية كان من أوائل مبادراتهم في عام 1911 أنهم تبرعوا بقطعة أرض من أجل بيت الكاهن، غير أن هذا التبرع سبق تعيين الكاهن لرعية السماكية، وتوضح مذكرات وكتابات الكهنة المؤسسون ما حدث الفترة، إذ تؤكد الكتابات أنه”سنة 1911، وبطلب من الأب أنطون عبد ربّه، جاء الأب حنا بنفيل لقضاء بضعة أيام في السماكية. تبرع أهالي البلدة بقطعة أرض للأب بنفيل مساحتها عشرة دونمات في أعلى البلدة لإقامة سكن جديد. وكان الأب أنطون في نفس الوقت، يلح على البطريرك لإرسال كاهن يقيم في السماكية .وأشار إلى الأب منصور جلاد مؤكدا أنه أهل لهذا المركز، لما رأى فيه من غيرة على هؤلاء المسيحيين، وكان آنذاك كاهن رعية عجلون. قبل الأب منصور ذلك المركز، ولم يقبل أحدا غيره لتنصيبه في السماكية”.

***

   هناك نقص في المعلومات الإحصائية الدقيقة لعدد أهل السماكية في بداية القرن العشرين، غير أن تلك الإحتفالية التي أبهجت القرية ،وأضفت روح السلام والمحبة عليها، عندما تم تنصيب المرسل الجديد اليها عام 1911، فكان ما يكتب حول تلك الفرحة ترشح منه بعض معلومات تعطي صورة مقربة عن القرية آنذاك، وتشير إلى جانب من ملامح ذاك الطقس في تلك السنوات، ولعل ما كتبه الأب “حنا بنفيل” كاهن مادبا يعطي جزءا مما اجترحناه حين يقول في احدى كتاباته “عدت توا من سفري إلى السماكية لتنصيب المرسل الجديد، الأب منصور. غادرنا في صباح بيرمون عيد القديسين بطرس وبولس بعد قضاء ليلة في الهواء الطلق.

في خربة “ريحه” كانت الدخلة الإحتفالية بصحبة الخيل المعتادة. يوم السبت، قداس وافتتاح الرعية تحت شفاعة الرسولين. قمنا يوم الأحد بزيارة أبناء الرعية عائلة عائلة، وباركنا البيوت والبيادر، أحصينا 300 شخصا، عدد الطلاب في المدرسة 50 طالبا وهي تسير سيرا جيدا”.

كنيسة اللاتين

لعل من أهم المباني التراثية في قرية السماكية، بالإضافة لكونها نموذجا معماريا على مستوى الكرك أيضا، هي كنيسة اللاتين في السماكية التي تعطي وصفا تفصيليا لها رسالة الماجستير لهشام عبد الرحيم المجالي، والتي موضوعها المباني التراثية في محافظة الكرك، حيث يتعمق في وصف تفاصيل الكنيسة معطيا في البداية الوصف العام لها بأنه تتخذ الشكل المستطيل، وطولها 21.5م، وعرضها7.5م، وارتفاعها4م، يتم الدخول اليها عبر مدخل رئيس في الواجهة الجنوبية، وسقف الكنيسة من الداخل مستو، ومن الخارج يتخذ الشكل الجلموني، ويقوم هذا السقف على ستة أعمدة مربعة الشكل طول ضلعها0.3م، وتقسم الكنيسة من الداخل إلى ثلاثة أروقة طولية، تنتهي الأروقة بمبنى مستطيل يضم ثلاث حجرات: حجرتين جانبيتين لكل منهما مدخل، وحجرة وسطى بمدخل واسع ذي ثلاث درجات، ويوجد أمام هذه الدرجات ما يعرف بالهيكل، ويتوسطه مذبح. ملحق بالكنيسة من جهة الغرب سكن الكاهن الذي يقوم على رعاية الكنيسة، ويتألف من عدد من الحجرات، ومن صالة كبيرة تستخدم لاستقبال الزوار في العديد من المناسبات”.

البابور والماء والكهرباء

تشير ذاكرة القرية الى أن أول بابور طحين كان ل”خليل العكشة (أبو بطرس)”، وهو أول بابور في شمال الكرك، و”كان يخدم كمان بدو بني عطية والحجايا”، ويقال بأن خليل العكشه كان يجيب هذي البوابير من مصر، على أساس القراريط(الأسهم) مع أهل القرية التي توصيه على بابور، ولكن كان هو دائما أكبر المساهمين، وهو جاب أكثر من عشر بوابير، منها واحد في الثنيه، والجدعا، وقرى الحمايده، وغيرها، وكان المساهمين ياخذوا أرباح، وكانوا يدفعوا لما يطحنوا الهم، فكان بالدفع مش بالمجان، والبوابير كانت على كاز”.

***

أما عن الماء، فتشير ذاكرة السماكية الى أن أهلها كانوا يجلبون الماء بواسطة سقايات وعلى دواب لها من المعرجة، وخربة البالوع الواقعة في شمال شرق السماكية، لكن في عام 1965 صاروا يجلبوا الماء من الحبيسية، وذلك أنه قامت مؤسسة كير اللبنانية بجلب الماء الى القرية، وقامت بتوصيل الأنابيب وتمديدها على حسابها لأهل القرية، كما يتذكر أهل القرية أنه كان أحد موظفين هذه المؤسسة اسمه أبو مروان الشوارب.

***

كما أنه في الفترة من 1960 وحتى 1980 كان هناك في القرية الأب جريس نعمة ،وكان له علاقة طيبة مع الإيطاليين، فعملوا على إقامة مشروع الكهرباء للقرية حيث نصبوا الأعمدة، ومددوا الأسلاك داخل البيوت وقد حدث هذا عام 1969. ولم يتوقف عطاء الإيطاليين، أصدقاء الأب جريس عند دعمهم بالكهرباء فقط، حيث أنهم في السنة التالية(1970) قاموا بحفر بئر ارتوازي لقرية السماكية، وقاموا بتسليمه للبلدية، وهو الآن تابع لبلدية شيحان.

 

***

يتحدث كبار القرية بأنه لم تكن هناك عيادة في السماكية حتى الستينات، ولذلك فقد كانوا يلجأون الى الطب العربي باستخدام الأعشاب، كالشيح، والقيصوم، والبعيثران، وغيرها اضافة الى الكي بالنار، وأساليب الطب العربي المختلفة، غير أن العيادة التي افتتحت في الستينات كانت عبارة عن غرفة مستأجرة، وكان فيها ممرض، ما زال يتذكره الكبار وهو جمال الحجازين، كما أن البريد تم افتتاحه في تلك الفترة تقريبا يعني في عام 1967 داخل القرية.

المدرسة

كانت أول مدرسة في السماكية هي مدرسة اللاتين والتي تعود الى عام 1912، ويشير أهل القرية الى أنه كان هناك دير الراهبات موجود، لكنه كان على أطراف القرية، “وكان بالنسبة لتلك الفترة بعيد علينا، فكان لا بد من تعمير المدرسة، وكانت تابعة الى البطركية اللاتينية وكانت منذ ذلك الحين فيها راهبات وفيها تعليم للفتيات، وقد كان الأب منصور الجلاد هو أول من ساهم في تعمير هذه المدرسة. وبشأن إقامة معلم أبناء الرعية، والأب منصور في تلك الفترة تلقي الضوء عليها جزءا من كتابات الكهنة التي تشير أنه في تلك السنوات كان “يقيم الكاهن مؤقتا في بيت المعلم. بنى الأخير(المعلم) غرفتين على طريقة أهل البلد: أي غرفة له وغرفة للكاهن، وقاعة طولها 12 مترا، وعرضها 8أمتار تستعمل للصلاة”.

***

السماكية.. ذاكرة وتاريخ الانسان والمكان.. نور شمعة، ونبض طيب، وأهل هناك يكرمون الضيف، ويفرحون للحياة، ولذا كانت السماكية دائما مقام ألفة، وقلب عابق بالخير والعطاء.. تلك هي قريةالسماكية، أجمل القرى.