بوح القرى

كتابة وتصوير: مفلح العدوان
الحمراء: تلال المَعْقُود وحكاية “الرادار”

الحمراء: تلال المَعْقُود وحكاية “الرادار”

الحمراء: تلال المَعْقُود وحكاية "الرادار"

شمالا ترتحل العين نحو أرض “الحمراء”..

هناك على مسافة قريبة من لهفة التوق للمعاني الأولى حيث الأبجدية البكر للأرض، تقع قرية الحمراء بين الحدود الشمالية، وبين ما تبقى من قرى ومدن الأردن، وهي من على مرتفعاتها، هناك، تعانق ببصرها قمة جبل الشيخ، والسويداء في سوريا، واربد وعجلون والمفرق، حولها، في مشهد فسيفسائي تتيحه مرتفعات “المَعْقُود” في قرية الحمراء التي تعي بأنها ما إن تبدأ بوحها بما لديها حتى تتزاحم القصص والحكايات، عندها، بدءا من اسمها “الحمراء” الذي يقول أهلها بأنه جاء انتسابا إلى تربتها الحمرا، ويتحدث غيرهم بأن الذاكرة الشعبية تكرس قصة مفادها أنها اكتسبت التسمية بسبب أن “فرس الشيخ إبن عجيان قُتلت في هذا الموقع، وكان اسمها “الحمراء”، فتضرج التراب الأحمر بالدم القاني للفرس، وسمي هذا المكان بعد ذلك بالحمراء، وهذا ما يكرره الكبار أيضا، وهم يصرون كذلك على حذف الهمزة من الكلمة فينطقونها “الحمرا”، ويضيفون عليها تعريفا أكثر قربا منهم بأن اسم قريتهم “حمرا بني خالد”، وكأنهم يرغبون بالحكي أكثر عن الناس بدل الاسترسال في تصفح المكان حجرا وترابا.

الحدود

حتى لا يتم الزحف عليها من قرى أخرى، وكان أول من سكنها في تلك الفترة “مفضي معيذف”، و”ذياب الدحيّم”، و”حاكم هزاع الدحيّم”، و”ندى هزاع الدحيّم”، و”مفضي السليم”، و”سليمان المحسن”، كما يذكر “أبو صلاح” أنه قام “هايل الدحيّم” بتقديم الدعوى إلى المندوب السامي حتى تتم هذه القسمة.

ويضيف أهل القرية بأنه “كان المندوب السامي يريد أن يأخذ الأرض كلها ويعطيها إلى عائلات أخرى، لكن رجال مثل هايل دحيّم، وشماخ دوّاس الدحيّم، من القرية، وقفوا في وجه هذا القرار، وقدموا اعتراضات ودعاوى، حتى ثبتوها.

وكانت أول دار بالقرية هي لـ”شماخ الدحيم” و”سليمان المحسن”، وكانت دور من حجر وطين. بعد ذلك بدأت بقية القرية تسكن حوليهم، ولم يكونوا كثيرين، ولكن بعد زمن تكاثر أهل القرية ووصل تعدادهم إلى ما هم عليه الآن.

"حوض رقم تسعة"

وحتى تكتمل قصة الاستقرار في القرية، وتداعيات علاقة تلال المعقود بقرية الحمراء، لا بد من سماع شهادة من القرية المجاورة للحمراء وهي قرية حوشا، لوجود أواصر قديمة بين القريتين، وكأنهما قرية واحدة، وفي هذا المضمار يتحدث زيد القاضي، وهو من حوشا، ورئيس جمعية حوشا للأسرة، فيقول: إن تلال المعقود هو حوض رقم 9 وتعود ملكية هذا الحوض للشيخ المرحوم اكْرَيم فارس القاضي، والشيخ المرحوم قفطان فارس القاضي، إلا أنه بواسطة الشيخ المرحوم حديثة الخريشا والشيخ الصانع رحمه الله، تم تفويض هذا الحوض إلى أبناء عشائر بني خالد في قرية الحمراء آنذاك من قبل شيوخ حوشا وهم الشيخ المرحوم منصور فارس القاضي، والشيخ المرحوم اكْرَيم فارس القاضي، والشيخ المرحوم سعود فارس القاضي، والشيخ المرحوم قفطان فارس القاضي، وقد كان هذا الحوض اسمه “الحُرش”، نظرا لوجود أشجار كثيرة في تلك المنطقة.

الرسومات المذهّبة

المسير داخل قرية الحمراء هادىء، صامت، كأنه قراءة مركزة في المكان. وحين كان المرور بـ”مقبرة أم أحْبله” أقدم مقابر القرية، كان فيها بقايا حجارة تكاد تستوي مع الأرض، ثم بعدها كانت الوجهة باتجاه درب قديم، يتذكر أهل القرية أنه كانت ترصفه حجارة وعليه صخور كبيرة كأنها تحدد دربا للتجارة، أو هي أساسات سور قديم، كانت بعض بقاياه موجودة هناك، غير أنه كان قد تم نقل أجزاء كثيرة من الحجارة التي يلمح أهل القرية إلى أنه ربما تم أخذها واستعمالها لبناء بيوت في قريتهم أو القرى المجاورة.

أكملنا مسيرنا عبر “تلال المعقود” حيث كان يدلنا رفيقنا في المسير “أكرم شرف الخالدي”، محاولين تتبع الدرب التي كانت تحلق فوقها الطائرات الإسرائيلية أثناء قصفها لـ”الرادار” الذي كان منصوبا بأعلى قمة من “تلال المعقود”، التي ترتفع 750 مترا عن سطح البحر، غرب القرية. قال دليلنا: “يروي الذين عاصروا تلك الفترة أن الطائرات كانت تتسلل من جهة “الشارة”، وهي تلة عند قرية المشيرفة قرب منطقة الدُرزي،  كانت عليها إشارة تدل على “سلاح الجو الأردني”، وكانت الطائرات تتسلل بين تلك التلال، وتتصدى لها المقاومات الجوية، قبل أن تقصف منطقة الرادار”. ويحتفظ “أكرم” ببعض شظايا القنابل التي كانت تلقى على المكان.

“موقع الرادار” هذا صار معلما تتميز به قرية “الحمراء”، وكأنه وسام تضعه القرية على صدرها، وقد بقيت من تلك المنشآت بعض القواعد الإسمنتية، وخنادق، وخزان ماء تركه سلاح الجو وكان مصنوعا من الحديد جاءت سلطة مياه المفرق وبنت مكانه خزانا اسمنتيا وهو مهجور وما زال قائما حتى الآن.. كما أنه في هذا المكان تقوم بعض تشكيلات القوات المسلحة بالتدريب بين فترة وأخرى.

يتذكر أهل القرية أيضا أنه كان قد وجد بعض الآثار على تل المعقود، ومن أهمها تلك الرسومات المذهبة على لوح خشبي، وقد اكتشفته القوات العراقية في موقع “الرادار” الذي أقامته على تلك القمة. ويضيف كبار القرية أنه تم نقل هذه الآثار الى مدرسة بنات الحمراء آنذاك وبعدها نقلتها الحكومة إلى دائرة الآثار، غير أن بعضهم يشكك في ذلك ويعتقد أنه قد تمت سرقتها وبيعها.

قوات صلاح الدين

ما زال أهل الحمراء يتذكرون تفاصيل الجيش العراقي عندما حضر في عام 1967 واستقر في قرية الحمراء قبل حرب حزيران.

عن تلك المرحلة يروي أهل الحمراء أن الملامح  العسكرية طغت على تفاصيل القرية،  ويوضح ذلك المختار “أبو صلاح” قائلا أن “البلد كانت مليئة بالعراقيين، وبعضهم استأجر وسكن في الحمراء، وكانوا قد بنوا تحصينات لهم ولدباباتهم، ومنتشرين في كل المنطقة حتى مثلث حوشا، وطريق المغيّر، والشارة.. كانت القرية كإنها معسكر، وكان قائد هذا اللواء، ربما هو لواء قوات صلاح الدين على ما أذكر، سكن في المدرسة، وسمعنا ان المرحوم  الملك حسين زارهم في موقعهم هذا”.

وتقول زوجة المختار”أم صلاح” أن هذه القوات “ما كانت تحتك بالمواطنين..كانوا لوحدهم، لكن الناس كانوا يتهيبون الجيش عندما يروا الجنود. أتذكر انه لما بنينا المسجد كنا نحضر الماء على رؤوسنا، والرجال يحضرون الرمل من الوادي، ولكن بعد ما بنينا المسجد ساعدنا الجنود العراقيين ببناء حوش الجامع بحالهم. وبعد ما صار الجامع وهو جامع “ابو ذر الغفاري”، كان أول شيخ للجامع هو من العبيدات وكنا نناديه “أبو عبد الله الشيخ”. أما الجيش العراقي فبقي في القرية حتى بعد السبعين بعد عام 1970م”.

معارك الطائرات

من يجلس مع أحد أبناء الحمراء يجد أن لهم دراية وطيدة بالطائرات وأنواعها لأن القرية عانت من معارك الطائرات في سمائها خاصة طائرة الفانتوم التي كان الجيش الإسرائيلي يغير بها على القوات العراقية والأردنية في القرية، وكانت تتصدى لها الطائرات الأردنية، لأن قاعدة المفرق قريبة من هنا، وأهل قرية الحمراء يتذكرون من الجيش الأردني طائرة التايكر، وتتردد على ألسنتهم بتلقائية اسماء مثل “الأف خمسة، والهوكر هنتر، وسكاي هوك”، وكلها أنواع طائرات ألفوها تلك الفترة. ولعل هذه الذاكرة العسكرية لمن يسكن الحمراء تجعل لهذه القرية جزءا خاصا بها من ذاكرة المعارك في الأردن,  تكمل به صفحات كتاب النصف الثاني من القرن الماضي.

الخطيب جمعة

عندما يتحدث أهل القرية عن خارطة قرية الحمراء الأولى، في بداية تشكيل القرية،  يسردون تفاصيل المكان وكأنه منقوش في الذاكرة، وهم يقولون بتلقائية أن الكهرباء،  مثلا، وصلت للقرية في “الثلاثة وثمانين(1983م)، وأن التلفون أول ما وصل”، كما يقول المختار “أبو صلاح”، “كان مانويل وعند “فالح زيتون” من الهلال وكان عنده دكان فحطوا التلفون هناك لأنه ثابت”.

كما أن قرية الحمراء تتذكر أن اول رئيس مجلس قروي لها كان “عسكر عودة الدحيم”,  أما العيادة القديمة للقرية فيشير كبار القرية إلى أنها كانت مبنية في مكان جامع “خالد بن الوليد” المقام حديثا في القرية، وكانت تتكون من غرفتين، بينما الممرض فيها كان اسمه “بخيت”.

لكن المدرسة تعود ذاكرتها الأولى إلى قرى غير الحمراء حيث كان أبناء القرية يدرسون قبل بناء مدرسة الحمراء في قرية “حوشا” أو قرية “المنشية”, كما يقول الكبار في القرية، مؤكدين بأنه “بعدين صارت الدراسة في بيوت مستأجرة، هذا من 1/9/1958 وبعدين قرأنا سنه، وغيّرنا الى غرف مستأجرة ثانية، وكان بالعطلة الصيفية يدرسنا الخطيب “جمعه” ثلاثة أشهر، لكن كبار القرية كانوا يسعون في تأسيس مدرسة وبنائها للقرية، وكان منهم “حطّاب الرافعي” وهو من من أكثر الذين تابعوا وراجعوا لتأسيس المدرسة،  وساهموا في بنائها، وأيضا معه موسى الناصر، وكان كل هذا صار حتى أسسوا المدرسة  سنة الأربعة وستين 1964″.***

ما زال الأهل الطيبون يحيون دروب قرية الحمراء، والذاكرة عابقة بمعتق الحكايات هناك حيث الأصالة والمرؤة والعيون العاشقة لتراب الأرض هناك.. يا لطيب الذاكرة بوحا محبا لكل تفاصيل المكان ونبض الانسان، هناك في قرية الحمراء!!  

 

***