مَعان.. وضاءة الجبين
مَعان.. وضاءة الجبين
تهب الريح ..
تُسرع بوحا نحو الجنوب.. تسرح مسترجعة كل ما صدر هناك من خير، ومن طيب مقام.. تتباهى بإقامتها بين نسمة نخوة، ورذاذ تاريخ، وتفتح بوابة المدينة لتقرأها على مهل، فيأتي الجواب منها بـ( يا هلا ).. وتطلّ معان، وضّاءة الجبين، جلية الموقف، سعيدة بالضيف الآتي لاكتشافها، وللحفر في تاريخها، ولاستنطاق آثارها..
حين تهدأ الريح يكون مقام الحب حاضر، وتبدأ المدينة حديث السمر، توقا، وحبا..
بوح كأنه الصلوات الطيبات.. ينصت لها الضيف، فتقول: أنا معان.. أنا مدينة، واطَنتُ الجنوب، وصرت جزءا من دمه، وبعضا من نبضه، وأتوق الآن لأن أبوح أكثر، وأقول كل ما لدي.. أنا معان.. أُعلي الصوت بكل رحابة صدر، ليعلم الباقون أي أسرار تلفعها جنبات أسواري، وطرقات تاريخي، ومسالك الناس عندي.. ها أنا أبدأ البوح: من زمان.. هكذا يبدأ الحديث في معان، وهنا فصل المقام.. معان.. مدينة موغلة في القدم، تقع على لسان الصحراء، مبتعدة عن عمان جنوبا أكثر من مائتي كيلو متر.. معان.. من لا يعرفها ؟ تلك الجميلة الحضور، التي تتجلى رسالتها في جلاء معناها الذي يعني المنزل، وكأن قدرها، حتى من خلال اسمها أن تكون واهبة السكينة، والأمان، كأنها البيت الدافىء لكل من أراد الراحة والاستقرار.. وهي الموغلة في القدم، حيث تعود الحياة فيها الى ما قبل التاريخ، راجعة في احدى مراحلها الى العصر الباليوليثي
الشامية.. الحجازية
معان .. لموقعها سحر، وتميمة، وعبقرية قلّ نظيرها، في توسطها بين الشام، والحجاز والعقبة، فكانت أهم المحطات للقوافل التجارية للتجار المعينيين، والسبأيين، والحميريين، في مراحل قرون قبل الميلاد.
تتذكر المدينة من واطنها .. تحفر في تاريخها، لتعلن أن المدينيون هم أول من سكنها، ثم جاء بعدهم الأدوميون، وهم يعودون في جذرهم الى قبائل جذام، الا أنها نالت الحظ الأوفر من الإزدهار في عهد الغساسنة، عندما بنى فيها الحارث الثاني ملك غسان قلعة معان التي تعرف اليوم باسم الحمام.. ولقد كتب في بداية القرن الماضي، الشيخ حمزة العربي، عن تقسيم أناس المدينة، بحسب أصولهم قائلا:
( وتنقسم معان الى قسمين؛ معان الشامية، ومعان الحجازية، فالشامية تقع في جهة الشمال، والحجازية في الجنوب، وبينهما فجوة واسعة تقدر نحو مائتين وخمسين ، تسمى المنزلة قد عمرت بالمساكن والسكان التي وصلت بين المعانين، وبني فيها مسجد كبير جامع ..).
الحصن.. طرق الحاج
يقول كتبة التاريخ، أن مدينة معان، في العصر الاسلامي كانت صغيرة، على مرحلة من الشوبك، وحصنا من الشراة على طريق الحج الشامي، كما كان يعقد بها سوقا في غدوهم ورواحهم..
وفي العهد الأموي كانت مسكنا لبني أمية ومواليهم، وبقيت فترة طويلة من محطات الحج الشامي، حيث عمل السلطان العثماني سليمان القانوني على بناء حصنا منيعا في معان لتأمين طريق الحج، وسلمه الى أخوين من وادي موسى.. وبقيت مزدهرة في عهد الأمويين حاضرة، ومركز اشعاع، على طريق الحج، وقوافل التجارة، كأنها تعيد بحضورها هذا، ذاكرة العرب القدماء في رحلة الشتاء والصيف، التي كانت هي محطة من محطات التجارة القديمة، وبقيت حاضرة على مرّ الزمان .
حديث الرحالة والمؤرخين
وقد دون ذاكرة معان، وجغرافيتها، المؤرخون والرحالة، والمكتشفون، فأفردوا للمدينة صفحات كثيرة من كتبهم، موضحين أهمية مكانها، واستراتيجية موقعها، فقد كتب عنها أبو عبيد البكري، في معجم ما استعجم قائلا: (ومُعان بضم أوله: حصن كبير من أرض فلسطين، على خمسة أيام من دمشق، في طريق مكة، وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملا للروم على معان، الحصن المذكور، وما يليه من أرض الشام، فأسلم وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بغلة بيضاء، فلما بلغ الروم ذلك طلبوه حتى ظفروا به، فحبسوه، ثم قتلوه وصلبوه.. وقال ابن اسحاق: فزعم الزُهري أنه لما قدم لتضرب عنقه قال:
(بلغ سَرَاة المسلمين بأنني
سَلم لربي أعظمي ومُقامي).
وفي مكان آخر يورد ابن اسحاق قوله بأنه:
(لما نزل المسلمون معان، وهي بين الحجاز والشام، حصن كبير على خمسة أيام من دمشق بطريق مكة، بلغهم أن هرقل قد نزل من ارض البلقاء في مئة
ألف، فأقام الناس بمعان ليلتين، ثم إن عبد الله بن رواحة شجعهم، فاستمروا لوجهتهم..).
وقال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان: (معان، بالفتح وآخره نون، والمحدثون يقولون بالضم، وإياه عنى أهل اللغة، والمعان: المنزل، يقال: الكوفة معاني، أي منزلي، قال الأزهري: وميمه ميم مفعل: وهي مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء، وكان النبي بعث جيشا الى مؤتة فيه زيد بن حارثه وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحه فساروا حتى بلغوا معان فأقاموا بها وأرادوا ان يكتبوا الى النبي صلى الله عليه وسلم عمن تجمع من الجيوش، وقيل: قد اجتمع من الروم والعرب نحو مائتي ألف فنهاهم عبد اله بن رواحة وقال: انما هي الشهادة أو ا لطعن..)
كما كتب عنها الرحالة ابن بطوطة، عند مروره بها مع الركب الشامي المتوجه الى الحج، فقال: (ثم ارتحلنا الى معان، وهو آخر بلاد الشام، ونزلنا من عقبة الصوان الى الصحراء..).
ومرّ بها الرحالة المغربي خالد البَلوي، فكتب عنها، في معرض ما كتب عن رحلة حجه آنذاك: (وسرنا صباحا نجد السير، ونسرع إسراع الطير، لا تستقر بنا حرارة منزل، ولا نبيت بحمى إلا والكرى عنا بمعزل، الى أن وردنا ماء معان وهو ماء كثير، عذب نمير، فبتنا به وقد عزمنا على الرحلة وأتينا صدقاتها نحلة، ثم سرنا الى قفر صفر، واقتحمنا صدر فلاة تروع كل سعادة:
ومهامة كالبحر لا أثرا
فيها لمفتقر ولا سنن
لو سار فيها النجم ضلّ بها
حيران لا شام ولا يمن).
أما الجَزيري، فقد أورد في كتابه الدرر الفرائد المنظمة، نقلا عن ابن فضل العمري، فيما كتب عن حقيقة رحلة المجاز الى الحجاز قائلا عن معان التالي:
(وسرنا بعد ذلك والغاية معان، وبالله المستعان، ومعان عند الحجاج أول الحجاز، ومنها موارده، وإليها مصادره، وعندها يودع صاحبه المودع، ولهذا قيل: ومن معان يرجع المودع، كما قيل في الدرب المصري: من البُويَب يرجع المودعون، ومنها تضيق الأخلاق، وتتفرق الرفاق، وتنحل النياق، وينحل وثاق الإتفاق، ويتسلّط الجَمّال والعَكّام على الحجاج، ويذلون لهما ذيل أهل الكوفة، وقلنا:
” أقول والركب في اضطراب
وكل سار في السير عان
قد برّح السير بالمطايا
فَمَن مُعيني على معان “.