العقبة.. ذاكرة “أيلة”!
العقبة.. ذاكرة "أيلة"!
الماء .. سحر لا يعرفه إلا من افتقده !!
وأنا ابن صحراء، تطل من كثبانها، على لألأة البحر، فتسير منها الركبان، الى تلك الشطآن.
أصل هناك.. أسمع موسيقى تأتي من بعيد.. أتخيّل حوريات البحر يتمطّين على شُعب المرجان في العقبة.
هناك جنوبا، على شاطىء البحر الفاصل بين حرارة الشوق الافريقي، ونداوة الحب الآسيوي.. هي “العقبة”.. وهذا بحر بلون القلب، يسمونه البحر الأحمر، ونحن نسمي “العقبة” بالثغر
الباسم، وبنبض قلب هذا البحر.
***
وأزيد بأن أصل اسم “العقبة” كان “أيلة”.. ذاك الاسم الكنعاني المرتبط وجدانا، وجذرا، باسم الأنثى: أيلة ابنة مدين بن إبراهيم.. إنها “العقبة”، و”أيلة”، في آن واحد معا.
الماء .. كلما سكنته الغواية، زاد تعلقه بالغامض من الحكاية.. وهنا يناجي الماء دوماً، طيف “أيلة”.. والناس يناجونها معه، يرددون اسمها، كأنها المنقذ لأمانيهم: أيلة.. أيتها الأنثى المرتقبة، يا أنقى نسل تَبَقّى للخليل، يا المرتبطة طقسا بَهيّاً بإيل الكنعاني.. أيّة أساطير تحملين في إهابك المعقود بموجه الخير؟!
***
وأيلة في اللغة، عند الرجوع إلى لسان العرب، في مادة أيل: “وأيل إسم من أسماء الله عز وجل كنعاني أو سرياني، لأن أيل لغة في (إلـ) وهو الله عز وجل”. وفي رأي آخر؛ أيلة مشتقة من أيل، الوارد في نص جلجامش، بمعنى الله، وكان أيل، إله الأكاديين والكنعانيين، فهي بالتالي ساميّة، وتعني الله، وبهذا تتفق مع تفسير علماء اللغة العربية. أما اسم العقبة، فقد برز في العصر المملوكي، حيث كانت المدينة تُذكر بأيلة، أو عقبة أيلة، ردحا طويلا من الزمن، حتى غلب اسم العقبة عليها في العصر المملوكي. والعقبة في اللغة، هي الطريق الوعرة في الجبل، والجمع عقب، وعقاب، وعقبات.
***
سأزيد أكثر، في الحفر في تداعيات الإسم: العقبة، “أيلة”. ولكنها في مقاربات أخرى، قد تكون “ويلة”، تلك القرية حاضرة البحر، التي قال فيها الله تعالى: (واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر..).. أهي ذات ويلة التي ذكرها المقدسي في “أحسن التقاسيم” مطنبا في الحديث عن أهميتها آنذاك؟ إذ قال: (وبينما أنا يوما جالس مع أبي علي بن حازم، أنظر في البحر، ونحن بساحل عدن، إذ قال لي: ما لي أراك متفكراً؟ قلت أيّد الله الشيخ، قد حار عقلي في هذا البحر، لكثرة الإختلاف فيه، والشيخ اليوم من أعلم الناس به، لأنه إمام التجار، ومراكبه أبدا تسافر الى أقاصيه، فإن رأى أن يصفه لي صفة أعتمد عليها، وأرجع من الشك إليها فعل، فقال على الخبير بها سقطت، ثم مسح الرمل بكفه ورسم البحر عليه لا طيلسان ولا طير، وجعل له معارج متلسّنة وشعبا عدة، ثم قال: هذه صفة هذا البحر، لا صورة له غيرها، وأنا أصوره ساذجا وأدع الشعب والخلجان، إلا شعبة ويلة، لشهرتها وشدة الحاجة إلى معرفتها، وكثرة الأسفار فيها، وأدع ما اختلفوا فيه وأرسم ما اتفقوا عليه).
***
ها أنا.. ما زلت أفتح بوابة البحر.. أطرق خليج العقبة بالصدف، وبالمرجان.
أنادي: يا ذا المهابة.. أيها البحر الأحمر، يا بحر القلزم، تصفّح، لمحبيك، مخطوط العقبة، واسرده واضحا، كما كتبه الرمل، والماء، والملح، وبحّة غناء الصيادين.. إعزف على (السومرية) بقايا ألحانك الأزلية.. أراك، أيها البحر، تحمل موسيقى أمواجك على أوتار آلتك بمباركة آلهتك، التي نحتت اسم قيثارتك ( السمسمية)، من مسلة الجدة الأولى (السومرية)، تلك العتيقة بعمر الصوت، وبكل معاني تجليات صداه.
أسمع صوت تقليب صفحات الماضي من تاريخ العقبة، وهي أيلة في كل الأوقات كانت، وكأن البحر والرمل اتفقا على أن يبوحا بكل هذه الذاكرة المعتقة، ويقرأا على الملأ تاريخ المكان والانسان منذ قديم الزمان.
أُدَوِّن في الإطلالة الأولى بعضا من تفاصيل الجغرافية في العقبة، وتداعيات اسمها مرة أخرى، حيث يكتب الباحث ركاد نصير في كتابه “المعاني اللغوية لأسماء المدن والقرى وأحواضها في المملكة الأردنية الهاشمية” عن العقبة، بأنها “العقبة: الطريق في الجبل وعر؛ أو المرقى الصعب في الجبال. جاء في معجم البلدان: أيلة (العقبة) مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام، قدم يوحنه بن رؤبه على النبي (ص) من أيله وهو في تبوك فصالحه على الجزية، وكتب لهم كتابا أن يُحفظوا ويُمنعوا”. وهذا هو نص الكتاب: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البر والبحر. لهم ذمة الله وذمة النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعون ماء يريدونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر). هذا كتاب جيهم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
***
ويقال أن لقمان الحكيم من أهل أيلة، وهو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال لقمان بن ثاران حكاه السهيلي، عن ابن جرير والقتيبي. قال السهيلي، وكان نوبيا من أهل أيلة، قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وحكمة عظيمة. ويقال كان قاضيا في زمن داوود عليه السلام فالله أعلم. أما المسعودي فيقول عن لقمان: كان ببلاد مدين وأيلة في عصر داوود عليه السلام لقمان الحكيم، وهو لقمان بن عنقاء بن مربد بن صاوون. وكان نوبيا مولى للقين بن جسر، ولد على عشر سنين من ملك داوود عليه السلام. وكان عبدا صالحا، فمن الله عليه بالحكمة، ولم يزل باقيا في الأرض مظهرا للحكمة والزهد في هذا العالم الى ايام يونس بن متى حتل أرسل الى أرض نينوى في بلاد الموصل.
***
كما يشير الباحث نصير إلى أحواض العقبة، وأسماءها، ومعانيها، فيرصدها على النحو التالي: “حوض الساقية: الساقية: نهر صغير من سواقي الزرع. حوض الكنس: الكنس: جمع الكِناس للظبي: مستتره في الشجر ومُكتَنه ومغارته. حوض الركيبة: الرَّكيب: الساقية ما بين الحائطين من النخل أو ما بين النهرين، من كرم أو مزرعة، أو هو النخل غرس سطراً على جدول، والركيب: من يركب مع آخر. حوض المطار: المطار: مكان هبوط وإقلاع الطائرات. حوض الدار: الدار: المحل والسكن، أو البلد. حوض التل الأحمر: التل: أرض أعلى قليلا مما حولها. حوض الميناء: الميناء: المكان الذي ترسو فيه السفن (يونانية). حوض المِقص: المقص: آلة القصّ وهو قطع الشعر ونحوه، والمَقصّ: الأثر. حوض الجامع: الجامع: المسجد الكبير. حوض البلد: البلد: كل مكان مختط من الأرض عامراً كان أو خلاء. حوض الخزانات: الخزّان: المكان الذي يُخزن فيه الماء”.